البلد الّذي تضاءل مثل غيمة صيف | شعر

dageldog

 

التجوّل في الريف بحاسّةٍ واحدة

أمام الشجرة الّتي تشرّبتْ

بول طفلٍ صغير

أصغي إلى التراب

وهو يمتصّ السائل الذهبيّ بشراهة

تاركًا خلفه رغوةً بيضاء

 

أصغي لصراخ دودةٍ

تنقلب على ظهرها

رغم أرجلها الكثيرة

الّتي لم تغادر فيء صخرةٍ منذ ولادتها

 

أصغي للهدير الّذي يُحدثه

سرب نملٍ أسود

يرسم خطًّا متحرّكًا لا فراغ فيه

 

أصغي لعناق كلبين

يشمّان بعضهما

ويتبادلان لحساتٍ خاطفةً على الرصيف

قبل أن يواصلا المسير

برفقة سيّديهما،

كلٌّ في اتّجاه

 

إلى زعيق خنزيرٍ برّيٍّ

يُساقُ إلى الشاحنة

جرًّا مِنْ عنقه

عرف بالحدس وحده أنّه يُقادُ إلى حتفه

 

أصغي إلى زلزالٍ نائمٍ

تحت العشب الأخضر

الّذي ينحني على قدميّ

 

أصغي إلى الهواء

الّذي يسقط فجأةً في جوفي

 

وإلى دفقة دمٍ جديدةٍ

محمّلةٍ بالضوء

والأوكسجين

يدفعها القلب

إلى الأعضاء

حتّى أطراف الأصابع

 

جاتوه المساء

تقطعين المسافات في دائرةٍ صغيرة
ذهابُكِ إلى المطبخ
وعودتُكِ إليه،
الأواني اللامعة على الرفوف
سلّة الخضار الطازجة
وأكياسٌ مفتوحةٌ يسقط بها نهارُك


تنهمكين في طهو وجباتنا المفضّلة

بالنكهات المألوفة

الّتي سوف تلاحقنا... وتطبع مصائرنا


تبحثين في الكتب

عن أطباق حلوى جديدةٍ
جاتوه المساء... بالقرفة والفانيلا
سوف يترك مذاقًا دائمًا
يعلق مثل ذكرًى على طرف اللسان
 
كنّا نتعارك عليه... في كرٍّ وفرٍّ
وأحقادٌ تندلع بيننا
لا تقودنا إلّا إلى النعاس

 

الأعياد وأفراح الحيّ القريبة

القبلات السريعة على جبينك
الطلبات المشفوعة
برجاءٍ طفوليٍّ حارٍّ
كانت كلّها سببًا كافيًا
كي تعدّي حلوى المساء
هي الآن
كلّ ما تبقى منك على ألسنتنا

 

مهارة التنفّس في مكانٍ عام

الرجال الهرمون في ركن القاعة
بابتسامةٍ ترسمها التجاعيد
ينفخون أنفاسًا متقطّعةً
على كعكة ميلادٍ تسيل عليها الشموع

 

يدفعون هواءً ضعيفًا من صدورهم
تتراقص الشعلات أمامه
وتذوي قليلًا... لكنّها لا تنطفئ

 

لم تسعفهم
نفخات عازف الساكسفون الطويلة
الّتي تنساب من الراديو المعلّق

 

ولا بائع الكستناء الكهل
على مدخل المقهى
ينفخ بمهارةٍ لإخماد النار في يده
كلّما أخرج حبّةً من الموقد

 

ولا الشابّ المنحني على المنفضة
ينفخ هواءً أبيضَ ناعمًا
يثير الرغبة باللمس
أو استعادته
قبل أن يتلاشى ببطءٍ أمامه

.....

الهرمون المبتهجون في ركن القاعة
يخنقون الشعلات المتبقّية
برؤوس أصابعهم المبلّلة بالريق
ويتبادلون الهدايا كأنّها غنائم حرب!

 

دعساتٌ في شارعٍ ضيّق

البلد الّذي تضاءل مثل غيمة صيفٍ
سيتناثر عمّا قريب
مخلّفًا بقعًا صغيرةً على الخريطة

 

ستعضّ أطرافه بأسنانك مليًّا
بأظافرك النابية
وتشدّه إلى عظام القفص الصدريّ

 

علّه يتسع لرقصةٍ جماعيّةٍ
لمشوارٍ صباحيٍّ بحثًا عن الأوكسجين
أو لسباقٍ رياضيٍّ مُرْتَجَل

 

علّه يكفي لدرس سياقةٍ
لدعسة بنزينٍ جريئةٍ...
أو لزيارةٍ جبليّةٍ في ربيعٍ قادم

 

البلد الّذي سيتلاشى مِنْ تحت قدميك
كحفنة ترابٍ في الهواء

ستزرعه بأشجار زيتونٍ جديدةٍ
وبتلات لوزٍ وخرّوب
لتذهب في التراب عميقًا

 

لكن لن تجد اسمه في القواميس
ولا في دليل السفر
ستجده في سجلّاتٍ قديمةٍ
صورًا على الحائط
بأسماءَ ورموزٍ لا يتداولها أحد

.....

البلد الّذي تحفظ صفاته
كسمات الجلالة
وتعرف حتّى طرقه الترابيّة
ويبدو أليفًا لَكَ مثل وجه أطفالِكَ
سيتبدّد مثل غبارٍ صامت

 

أو سيراوح بالأحرى مكانه
ليظهر لَكَ بتضاريسَ جديدةٍ
رُسِمَتْ
على شاشةٍ في مكتبٍ بعيد!

 

سلّة التسوّق الفارغة

لأغصان الميرميّة على المائدة
رائحةٌ باهتة...
تتفقّد أعضاءَكَ فجأةً
كأنّ شيئًا ضاع مِنْكَ للتوّ

تأخذ نفسًا عميقًا
بين عروق النعناع الطازجة
علّك تقبض على عبقٍ نائمٍ
فلا يدخل جوفَكَ إلّا الهواء

وتغمس بالخبز زيتًا صافيًا
فينساب دون لسعته في الحلق
الّتي كَبُرْتَ عليها
مع أغاني الطفولة والنشيد الوطنيّ

لا مفرّ من الاعتياد
على نكهاتٍ ميّتةٍ
ووجباتٍ بمذاقٍ محايدٍ
لا تكاد تميّز
بين أسمائها في فمك

لكن لو استعنّا بالرياضيّات
وحدها،
فإنّ مجموعًا جبريًّا فقط
لهذي الغصّات اليوميّة الصغيرة
يمكن أن يودي بحياةٍ كاملة!

 


 

قصائد من ديوان «مهرولًا على ساقٍ واحدة» الصادر عن «دار النهضة العربيّة» في بيروت عام 2022.

 


 

أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها «عناقات متأخّرة». ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.